العنف في المجتمع (قراءة في أنثروبولوجيا الجريمة والإنحراف)



 التطور التاريخي للعنف في المجتمع:
           لكل ظاهرة اجتماعية تاريخ ترتكز عليه ، كذلك نجد أن العنف له تاريخ بارز رغم اختلاف المدارس و التوجهات التي تبرز لنا حقيقته و مواكبته للأفراد منذ القدم و كذا مختلف النماذج التي شهدتها كل مرحلة و ارتباطها بكل العوامل التي تميز حياة البشرية في مختلف المجالات لذا فإن التاريخ و العنف يشكل لنا ثنائية مرتبطة ببعضها البعض ، و هذا ما تؤكده النظرية الماركسية لماركس و أنجلز إذ تؤكد على الدور الكبير الذي لعبه العنف في التاريخ ، و خاصة العنف المرتبط بالتطور الاقتصادي ، إذ يرى ماركس أنه في كل مجتمع هناك صراع بين من يملكون وسائل الإنتاج و الخيرات و بين من لا يملكونها ، و هو صراع قديم قدم التاريخ البشري منذ المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الرأسمالية الحديثة فهناك دائما تفاوتات طبيعية على أساس ما هو اقتصادي و هي التفاوتات التي تشكل دائما سببا مباشر لاندلاع الصراع الطبقي ، الذي غالبا ما يتخذ طابعا عنيفا من أجل التحكم في وسائل الإنتاج كما يرى أنجلز هو الآخر ، و قد أخذ الصراع أشكالا مختلفة بين طبقات الأحرار و العبيد في مجتمعات العبودية و بين الإقطاعيين و الأقنان في ظل النظام الاقطاعي ، وفي المجتمع البرجوازي الحديث الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي الذي عرف بدوره صراعا بين البرجوازية و البروليتاريا .
و لهذا فالماركسية ترى بأن تاريخ البشر كله صراعات بين مالكي وسائل الإنتاج و فاقدي هذه الوسائل و أن الصراع يجسد العنف بكل مظاهره و قد ظهر مع ظهور الملكية الفردية فالماركسية حاولت القضاء على العنف باللجوء إلى ممارسات أكثر بشاعة و عنفا ، و لهذا كانت النهاية المحتومة لهذا النظام الزوال ، و عليه فالعنف ليس نتاج للرأسمالية كما تتصوره الماركسية ، بل هو ظاهرة قديمة قدم المجتمع البشري ، فقد كان العنف موجودا في المجتمعات البدائية و التي كان يمثل الرعي و السعي وراء الماء و العشب أهم خصائصها و من ثم ظهرت أنماط مختلفة من العنف بين القبائل تتمثل في العراك حول المياه و الكلأ قد تصل إلى القتل ، و في العصر الحديث اتسعت ظاهرة العنف و زادت حدتها و تباينت أشكالها بعد التقدم العلمي و التكنولوجي ، و التقدم في وسائل الاتصالات وتعدد حاجات الأفراد نتيجة لهذه التغيرات ازداد العنف و انتشر الاغتراب حيث تباينت القيم و المعايير التي تحكم سلوك الأفراد و اتسعت الهوة بين القيم و المعايير فضلا عن ظهور الصراع القيمي بين الأجيال ، فلا شك أن التباين بين قيم الأبناء و الآباء و المجتمع يؤدي بالضرورة إلى العنف ، علاوة على أن تصدع القيم و المعايير أدى إلى لجوء الفرد إلى استخدام وسائل غير مشروعة لتحقيق أهدافه ، فالعنف لا يمكن تفسيره بطبيعة الفرد ، بل هو نتاج لتاريخ الحياة الاجتماعية ، و غالبا ما يقترن بانتشار مظاهر المساواة  في توزيع الخيرات ، فيرى مارتر أن العنف وليد الندرة ، حيث لا موارد تقابل الحاجات ، أما نوربر الياس يرى أن العنف يتراجع تاريخيا . ويعود ذلك إلى تطور الاتجاه نحو التحكم في الغرائز أو ما يسميه بحضارة الأخلاق.
و نجد العالم "أردري" يقول أن البشر قتلة بطبعهم لأن الناس الأوائل استخدموا أدوات كأسلحة من أجل تحطيم جماجم القردة ، ثم يجيب بأن أسطورة الناس كحيوانات مفترسة هي واحدة من مسوغات قصوى عند الرجل الغربي ، توضع أصول العدوانية الإنسانية و تتحاشى المسؤولية عنها باعتبارها فطرية ، و يرى "لوتورنو" أن الحرب لا تحدث إلا عندما تبلغ الثقافة درجة ما من التعقيد ، فعندما كان الناس قلائل في بداية الحضارة لا يضايق أحدهم الآخر ، كانت الحرب غريبة عنهم ، و منه نفهم أن الحرب كشكل من أشكال العنف و العدوانية و محاولة إخضاع الآخر لم تكن منتشرة في كل المجتمعات البدائية بل جاءت كرد فعل من طرف هذه المجتمعات للدفاع عن بقائهم و ممتلكاتهم ، كما أن العامل الديموغرافي و ندرة الخيرات يعدان من بين العوامل التي ساهمت في تنمية الحروب العدوانية ، إلا أن هذا لا ينفي وجود شعوب بسيطة بدائية كانت تتخذ العنف و الحرب حرفة لها كما كان يحدث في مناطق إفريقيا الغربية ، كان الغزو في سبيل الحصول على العبيد احد الأسباب الرئيسية للحرب .
وعليه نقول بأن ظاهرة العنف كانت حاضرة دوما عبر كل مراحل التاريخ، كما أن المسالمة وروح التعايش بدورها كانت حاضرة عند العديد من الشعوب ولا يمكن القول إن كل الشعوب كانت تتخذ من العنف منهاجا للحياة أو من المسالمة طريقا في الحياة، هناك تباين بين الشعب الواحد، كما أن انتشار العنف كان يعود إلى العديد من الأسباب وليس لعامل واحد أو سبب كما حاول البعض تفسيره، فهناك بعض الشعوب كانت تمارس العنف لأسباب دينية والبعض الآخر لأسباب اقتصادية وشعوب أخرى لأسباب ثقافية.

Commentaires